الضمير الديني
وفي ذلك يقول امير المؤمنين علي ( عليه السلام ) : " فبعث فيهم رسله ، وواتر اليهم انبياءه ، ليستـأدوهم ميثـاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا فيهم دفائن العقول ، ويروهم آيات المقدرة " (1).
اذن ، الوظيفة الاولى هي تنمية الضمير الديني للبشر ويندرج تحت هذا العنوان. الانذار ، والتبشير .
فالانبياء جاؤا لينذروا الناس ويبشروهم، ولكن بم ينذرون الناس وبم يبشرونهم ؟ لينذروا الناس بالنار ويبشروهم بالجنة . { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } (النساء/165)
وهذه الكلمـة تكرّرت في القرآن الحكيم مرات عديدة ، وهي اهم وظيفة للانبياء ، ومن آثارها :
1 - تذكرة الانسان بالحياة الآخرة .
2 - رفع حجب الغفلة والنسيان التي تغلف عقل الانسان .
3 - اثارة دفائن العقل واستجلاء الضمير .
4 - تزكية الانسان وتربيته الخلقية .
وهذه كلها تؤدي الى تنمية الضمير الديني في الانسان ، هذا هو اهم عمل كان يقوم به الانبياء في الحياة .
اما الوظيفة الثانية فهي تنظيم حياة الانسان وذلك عبر :
1 - وضع البرامج وبلورتها بشكل كامل .
2 - رفع العقبات والعراقيل التي تعترض تطبيق تلك البرامج .
فالانبياء جاءؤا من اجل وضع برامج للعدالة الاجتماعية والاصلاح الاجتماعي ، بكافة جوانبه الاقتصادية والسياسية والاخلاقية والتربوية .
وليس وضع البرامج فقط ، وانما وضعها وتطبيقها ورفع العقبات التي تحول دون ذلك ، فاذا كان الطغاة يقفون حجر عثرة امام تطبيق المناهج الاسلامية الرسالية ، آنئذ تكون وظيفة الانبياء ( عليهم السلام ) هي ان يحملوا السيف ، ويعلنوا الحرب عليهم ، قال الله تعالى :
{ وَكَاَيِّن مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } (آل عمران/146)
( وكأين ) كلمة تستخدم للتكثير والمبالغة ، بمعنى كم من انبياء قاتل معهم علماء فقهاء أخلصوا للرب تعالى ، فكان هذا دور الانبياء في الحياة ، تنمية الضمير الديني ، وهي المسؤولية الاولى وتطبيق البرامج الالهية في الارض ، وهي المسؤولية الثانية وهذا ايضا هو دور الائمة ( عليهم السلام ) لانهم المستحفظون على رسالات الانبياء . فالامام علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) كان رجل سياسة ، ولكن السياسة لم تكن كل هم الامام .
فقد روى عبد الله بن عباس ( رض ) قال : دخلت على علي امير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله ، فقال لي : " ما قيمة هذا النعل ؟ ، فقلت : لا قيمة لها ! ، فقال ( عليه السلام ) : والله لهي احب اليّ من امرتكم الا ان اقيم حقا او ادفع باطلا " (1).
ومـرة قال في احدى خطبه : " ولألقيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنـز" (2).
فالسياسة في منطق الامام علي ( عليه السلام ) لم تكن هدفا وكذلك الحكم ، فان يكون شخص علي ( عليه السلام ) جالسا على اريكة الخلافة الاسلامية ليس مهما ، وانما المهم عنده هو احقاق الحق وابطال الباطل ، ويهم الامام علي (عليه السلام) ان ينمي الضمير الديني في الانسان المسلم .
لذلك نجد ان نهج البلاغة ، وهو كتاب حاكم مقاتل ، وقائد عسكري ، يفيض بالتقوى والتوحيد وبذكر صفات الله سبحانه وتعالى وآياته في الكون . ونجد ان الاحاديث والخطب التي قالها الامام علي ( عليه السلام ) قبـل ان يصـل الى الحكـم ، والتي قالها بعـده ، والتي قالها في حالة الحرب او السلم ، كانت على طراز واحد ، حيث كانت توجه الامة الى الله سبحانه وتعالى ، وانما نعتبره اماما لأنه قام بذلك وهذه هي وظيفة الامام علي ( عليه السلام ) ومسؤوليته ، وليس فقط لانه حاكم عادل ، فالحكم بالعدل مهم ولكنه ليس كل شيء .
ان الصفة الاساسية في شخصية الامام علي ( عليه السلام ) والتي يجب ان تستقطب اهتمامنا هي تقواه ، واستقامته وتجسيده في سلوكه لقيم الرسالة ومناهجها .. بالاضافة الى تربيته لمجموعة منتخبة من الناس كطليعة رسالية ، وضمير انساني ناطق في الامة ، امثال همّام وكميل بن زياد وغيرهم . لقد كانت تربيته لهذه المجموعة تنطبق عليها مواصفات الامام الصادق ( عليه السلام ) في كلمته " رهبان في الليل واسود بالنهار " .
فهمّام مثلاً هذا الرجل الذي تربى على يد الامام وارتضع من توجيهاته ودروسه،
كان يمضي لياليه بالتبتل والتضرع ، وكان يختم القرآن في كل ليلة ، ويروى عنه كذلك انه صلّى عشر سنوات صلاة الصبح بوضوء العشاء ، وفي الوقت نفسه كان حاكما من قبل الامام علي ( عليه السلام ) على مقاطعة خراسان والتي كانت تشمل في ذلك اليوم كل من ايران وافغانستان وقسما من الاتحاد السوفيتي ، فهو لم يكن منقطعا عن الدنيا ، وانما كان كادحا وعاملا طوال النهار ، وقائما في المحراب ليلا ، هذا الرجل ليس الأوحد من بين اصحاب الامام علي ( عليه السلام ) ان هناك من هم امثاله ، كعمار ، وميثم ، وقمبر ، وحجر بن عدي ، وضرير .
الامام الذي يربي في الكوفة اشخاصا يسهرون الليل تبتلا ويصلون صلاة الصبح بوضوء صلاة العشاء وفي النهار يقودون الناس ، في السلم والحرب ، انه لابد ان يربي مجموعات اخرى على درجات اقل ، بمعنى اذا كان قد كوّن عشرات من الصنف الاول ، فمئات من الذين يسهرون نصف الليل ، وآلاف من الذين يصلون الصلوات ويقرأون القرآن بشكل جيد ، ومليون انسان من النموذج الذي يؤمن بالله ايمانا عميقا ، ويستعد للتضحية في سبيل الله ، وبالتالي فهو يكوّن امواجا متلاحقة داخل الامة الاسلامية موجة تتبع موجة وكل موجة اكبر من السابقة .
وهكذا كان الامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) الذي عاش في فترة كانت الامة الاسلامية قد وصلت يومذاك الى قمة مجدها المادي ، وكانت الاموال تجبى الى العاصمة من كل مكان حتى ان الرشيد كان يستلقي على ظهره وينظر الى السحابة المارة ويقول : " شرِّقي وغرِّبي فخراجك اليّ " .
وكان الحكام والاغنياء ، يملكون الضياع والاموال والعبيد والجواري بلا حساب ، ويتمتعون بحياة مرفهة ، ويمارسون البذخ والاسراف العجيب .
فما هي وظيفة الامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) في هذا الوضع ؟
هـل ان وظيفتـه تنحصر في اسقاط هارون الرشيد ، باعتبار ان هارون الرشيد هو رأس الدولة الفاسد ، وقد امتد فساده الى جسم الامة ايضاً ؟
ان وظيفة الامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) الاساسية كانت تنمية الروح الدينية في الامة ، لذلك عندما كان الامام ( عليه السلام ) يسجن فان سجانيه لم يملكوا الا ان يتأثروا بحياته ، ويتشبعوا بالمبادئ والاخلاق التي كان يجسدها من خلال سلوكه وعبادته ودعائه ومناجاته لله سبحانه وتعالى .
وقد بعث هارون الرشيد رسالة الى ابن عمه قال فيها :
" اقتل موسى بن جعفر " وكان ابن عمه عيسى بن جعفر بن ابي جعفر العباسي، والياً من قبله على البصرة .
فبعث اليه عيسى جوابا قال فيه : انني لم ار من موسى بن جعفر الا ان يصلي الليل ويصوم النهار ويدعو ، وحتى في دعائه فانه لا يدعوا علينا ، وانا قد وضعت العيون لمراقبته ، فكان يقول : ( اللهم انك تعلم انني كنت اسألك ان تفرغني لعبادتك ، اللهم وقد فعلت ذلك فلك الحمد ) .
لذا فاما ان تأخذه مني وإلاّ فسوف اخلي سبيله (1).
ثم يأتي به ويضعه عند رئيس الشرطة في بغداد وكان الوزير فيها الفضل بن الربيع، فقال الفضل ايضا : انني لا استطيع ان اجعله عندي فانه انسان لم يطأ التراب ، اعلم واعبد منه في زماني هذا ، وقال ايضا لأحد خواصه فقد تعلم انه لا يفعل احد بأحد منهم سوء الا كانت نعمته زائلة ، ويقول ايضا : قد ارسلوا اليّ غير مرة يأمرونني بقتله فلم اجبهم الى ذلك ، واعلمتهم انني لا افعل ذلك ولو قتلوني ما اجبتهم الى ما سألوني(2).
اذن فالامام كان يبث الروح التوحيدية الحقة عبر صلواته ومناجاته ودعواته وقيامه في الليل ويربي بذلك مجموعات من الناس ليكونوا طلائع العمل الرسالي .
اقرأوا رسالة الامـام الى هشام بن الحكم (3) التي هي وحدها كافية لتربية الانسان
تربيــة متكاملة ، ولو ان انسانا آخر القى بهذه الوصية على هشام ، فقد لا يتأثر بهـا .
اما الامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) فانه استطاع ان يبثها في روح هشام، وربما كان للايحاء النفسي في هذه الوصية تأثير اكبر من عباراتها ، لأن الامام كان يجسد تعاليمها في افعاله قبل ان يلقيها كوصايا على هشام ، والاكثر من ذلك الموالي الذين كانوا حول الامام والخدم وكذلك ابناؤه كل واحد من هؤلاء بنظرته الى الامام موسى بن جعفر تحوّل الى رجل متدين ، وهذه هي الوظيفة الاساسية للأئمة ( عليهم السلام ) .
وربما يقول احدنا كان الواجب على الامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) ان يخفي نفسه ويكّون حركة سرية ويبدأ العمل السياسي ، ان هذا في الواقع عمل مهم ولكن الامام قد وكل امر هذه الوظيفة الى اناس غيره ، وقد تحدثنا سابقاً عن التنظيم الرسالي الذي توسع في عهده .
ان اعظم دور قام به الائمة المعصومون ( عليهم السلام ) ، هو القيادة الروحية للامة ، لذلك فرضوا انفسهم بصورة طبيعية حتى على اعدائهم ، فمثلا المنصور الدوانيقي هو الذي قتل الامام الصادق ( عليه السلام ) ، ولكن مع ذلك وبعد وفاة الامام تراه يبكي بكاءا مرا ويقول لأحد رجاله ، وهو ابو ايوب الحوزي : هذا كتاب بمحمد بن سليمان يخبرنا ان جعفر بن محمد قد مات ، فانا لله وانا اليه راجعون - ثلاثا - واين مثل جعفر ؟ (1).
اننا نقرأ في التاريخ ان الامام علي ( عليه السلام ) كان يذهب الى حديقة بني النجار ، حيث يقضي الليل هناك يبكي بصورة متواصلة ، ان هذا لم يكن مجرد بكاء ، وانما كان توجهاً صادقاً وعميقاً لله سبحانه ، وهذا البكاء هو الذي خلف في نفوسنا شعلة الايمان ، وكان يمشي في طرقات المدينة المنورة علّه يجد فقيراً
او مسكيناً او مريضاً ، او صاحب مصيبة فيعزيه .
وفي رواية ان رجلاً كان يتمشى في المدينة المنورة وقد سار في حقولها وعندما اقترب من حقل سمع انينا وبكاءا ، واذا به يجد الامام علي (عليه السلام) واضعا رأسه على الحائط يبكي كالواله ، وقد كان لجؤوه الى الحائط بسبب ان قواه كانت قد خارت من كثرة التعبد والتهجد وقيام الليل .
والامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) قام ايضا بهذا الدور ، فحينما كانت الامة الاسلامية مبتلاة برجل كهارون الرشيد يحتفظ في قصره بمئاة الجواري ، وتلبس جواري زبيدة زوجته احذية من الذهب وفي عهده كان البرامكة وما اشتهروا به من اسراف .
وفي ذلك يقول امير المؤمنين علي ( عليه السلام ) : " فبعث فيهم رسله ، وواتر اليهم انبياءه ، ليستـأدوهم ميثـاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا فيهم دفائن العقول ، ويروهم آيات المقدرة " (1).
اذن ، الوظيفة الاولى هي تنمية الضمير الديني للبشر ويندرج تحت هذا العنوان. الانذار ، والتبشير .
فالانبياء جاؤا لينذروا الناس ويبشروهم، ولكن بم ينذرون الناس وبم يبشرونهم ؟ لينذروا الناس بالنار ويبشروهم بالجنة . { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } (النساء/165)
وهذه الكلمـة تكرّرت في القرآن الحكيم مرات عديدة ، وهي اهم وظيفة للانبياء ، ومن آثارها :
1 - تذكرة الانسان بالحياة الآخرة .
2 - رفع حجب الغفلة والنسيان التي تغلف عقل الانسان .
3 - اثارة دفائن العقل واستجلاء الضمير .
4 - تزكية الانسان وتربيته الخلقية .
وهذه كلها تؤدي الى تنمية الضمير الديني في الانسان ، هذا هو اهم عمل كان يقوم به الانبياء في الحياة .
اما الوظيفة الثانية فهي تنظيم حياة الانسان وذلك عبر :
1 - وضع البرامج وبلورتها بشكل كامل .
2 - رفع العقبات والعراقيل التي تعترض تطبيق تلك البرامج .
فالانبياء جاءؤا من اجل وضع برامج للعدالة الاجتماعية والاصلاح الاجتماعي ، بكافة جوانبه الاقتصادية والسياسية والاخلاقية والتربوية .
وليس وضع البرامج فقط ، وانما وضعها وتطبيقها ورفع العقبات التي تحول دون ذلك ، فاذا كان الطغاة يقفون حجر عثرة امام تطبيق المناهج الاسلامية الرسالية ، آنئذ تكون وظيفة الانبياء ( عليهم السلام ) هي ان يحملوا السيف ، ويعلنوا الحرب عليهم ، قال الله تعالى :
{ وَكَاَيِّن مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } (آل عمران/146)
( وكأين ) كلمة تستخدم للتكثير والمبالغة ، بمعنى كم من انبياء قاتل معهم علماء فقهاء أخلصوا للرب تعالى ، فكان هذا دور الانبياء في الحياة ، تنمية الضمير الديني ، وهي المسؤولية الاولى وتطبيق البرامج الالهية في الارض ، وهي المسؤولية الثانية وهذا ايضا هو دور الائمة ( عليهم السلام ) لانهم المستحفظون على رسالات الانبياء . فالامام علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) كان رجل سياسة ، ولكن السياسة لم تكن كل هم الامام .
فقد روى عبد الله بن عباس ( رض ) قال : دخلت على علي امير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله ، فقال لي : " ما قيمة هذا النعل ؟ ، فقلت : لا قيمة لها ! ، فقال ( عليه السلام ) : والله لهي احب اليّ من امرتكم الا ان اقيم حقا او ادفع باطلا " (1).
ومـرة قال في احدى خطبه : " ولألقيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنـز" (2).
فالسياسة في منطق الامام علي ( عليه السلام ) لم تكن هدفا وكذلك الحكم ، فان يكون شخص علي ( عليه السلام ) جالسا على اريكة الخلافة الاسلامية ليس مهما ، وانما المهم عنده هو احقاق الحق وابطال الباطل ، ويهم الامام علي (عليه السلام) ان ينمي الضمير الديني في الانسان المسلم .
لذلك نجد ان نهج البلاغة ، وهو كتاب حاكم مقاتل ، وقائد عسكري ، يفيض بالتقوى والتوحيد وبذكر صفات الله سبحانه وتعالى وآياته في الكون . ونجد ان الاحاديث والخطب التي قالها الامام علي ( عليه السلام ) قبـل ان يصـل الى الحكـم ، والتي قالها بعـده ، والتي قالها في حالة الحرب او السلم ، كانت على طراز واحد ، حيث كانت توجه الامة الى الله سبحانه وتعالى ، وانما نعتبره اماما لأنه قام بذلك وهذه هي وظيفة الامام علي ( عليه السلام ) ومسؤوليته ، وليس فقط لانه حاكم عادل ، فالحكم بالعدل مهم ولكنه ليس كل شيء .
ان الصفة الاساسية في شخصية الامام علي ( عليه السلام ) والتي يجب ان تستقطب اهتمامنا هي تقواه ، واستقامته وتجسيده في سلوكه لقيم الرسالة ومناهجها .. بالاضافة الى تربيته لمجموعة منتخبة من الناس كطليعة رسالية ، وضمير انساني ناطق في الامة ، امثال همّام وكميل بن زياد وغيرهم . لقد كانت تربيته لهذه المجموعة تنطبق عليها مواصفات الامام الصادق ( عليه السلام ) في كلمته " رهبان في الليل واسود بالنهار " .
فهمّام مثلاً هذا الرجل الذي تربى على يد الامام وارتضع من توجيهاته ودروسه،
كان يمضي لياليه بالتبتل والتضرع ، وكان يختم القرآن في كل ليلة ، ويروى عنه كذلك انه صلّى عشر سنوات صلاة الصبح بوضوء العشاء ، وفي الوقت نفسه كان حاكما من قبل الامام علي ( عليه السلام ) على مقاطعة خراسان والتي كانت تشمل في ذلك اليوم كل من ايران وافغانستان وقسما من الاتحاد السوفيتي ، فهو لم يكن منقطعا عن الدنيا ، وانما كان كادحا وعاملا طوال النهار ، وقائما في المحراب ليلا ، هذا الرجل ليس الأوحد من بين اصحاب الامام علي ( عليه السلام ) ان هناك من هم امثاله ، كعمار ، وميثم ، وقمبر ، وحجر بن عدي ، وضرير .
الامام الذي يربي في الكوفة اشخاصا يسهرون الليل تبتلا ويصلون صلاة الصبح بوضوء صلاة العشاء وفي النهار يقودون الناس ، في السلم والحرب ، انه لابد ان يربي مجموعات اخرى على درجات اقل ، بمعنى اذا كان قد كوّن عشرات من الصنف الاول ، فمئات من الذين يسهرون نصف الليل ، وآلاف من الذين يصلون الصلوات ويقرأون القرآن بشكل جيد ، ومليون انسان من النموذج الذي يؤمن بالله ايمانا عميقا ، ويستعد للتضحية في سبيل الله ، وبالتالي فهو يكوّن امواجا متلاحقة داخل الامة الاسلامية موجة تتبع موجة وكل موجة اكبر من السابقة .
وهكذا كان الامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) الذي عاش في فترة كانت الامة الاسلامية قد وصلت يومذاك الى قمة مجدها المادي ، وكانت الاموال تجبى الى العاصمة من كل مكان حتى ان الرشيد كان يستلقي على ظهره وينظر الى السحابة المارة ويقول : " شرِّقي وغرِّبي فخراجك اليّ " .
وكان الحكام والاغنياء ، يملكون الضياع والاموال والعبيد والجواري بلا حساب ، ويتمتعون بحياة مرفهة ، ويمارسون البذخ والاسراف العجيب .
فما هي وظيفة الامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) في هذا الوضع ؟
هـل ان وظيفتـه تنحصر في اسقاط هارون الرشيد ، باعتبار ان هارون الرشيد هو رأس الدولة الفاسد ، وقد امتد فساده الى جسم الامة ايضاً ؟
ان وظيفة الامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) الاساسية كانت تنمية الروح الدينية في الامة ، لذلك عندما كان الامام ( عليه السلام ) يسجن فان سجانيه لم يملكوا الا ان يتأثروا بحياته ، ويتشبعوا بالمبادئ والاخلاق التي كان يجسدها من خلال سلوكه وعبادته ودعائه ومناجاته لله سبحانه وتعالى .
وقد بعث هارون الرشيد رسالة الى ابن عمه قال فيها :
" اقتل موسى بن جعفر " وكان ابن عمه عيسى بن جعفر بن ابي جعفر العباسي، والياً من قبله على البصرة .
فبعث اليه عيسى جوابا قال فيه : انني لم ار من موسى بن جعفر الا ان يصلي الليل ويصوم النهار ويدعو ، وحتى في دعائه فانه لا يدعوا علينا ، وانا قد وضعت العيون لمراقبته ، فكان يقول : ( اللهم انك تعلم انني كنت اسألك ان تفرغني لعبادتك ، اللهم وقد فعلت ذلك فلك الحمد ) .
لذا فاما ان تأخذه مني وإلاّ فسوف اخلي سبيله (1).
ثم يأتي به ويضعه عند رئيس الشرطة في بغداد وكان الوزير فيها الفضل بن الربيع، فقال الفضل ايضا : انني لا استطيع ان اجعله عندي فانه انسان لم يطأ التراب ، اعلم واعبد منه في زماني هذا ، وقال ايضا لأحد خواصه فقد تعلم انه لا يفعل احد بأحد منهم سوء الا كانت نعمته زائلة ، ويقول ايضا : قد ارسلوا اليّ غير مرة يأمرونني بقتله فلم اجبهم الى ذلك ، واعلمتهم انني لا افعل ذلك ولو قتلوني ما اجبتهم الى ما سألوني(2).
اذن فالامام كان يبث الروح التوحيدية الحقة عبر صلواته ومناجاته ودعواته وقيامه في الليل ويربي بذلك مجموعات من الناس ليكونوا طلائع العمل الرسالي .
اقرأوا رسالة الامـام الى هشام بن الحكم (3) التي هي وحدها كافية لتربية الانسان
تربيــة متكاملة ، ولو ان انسانا آخر القى بهذه الوصية على هشام ، فقد لا يتأثر بهـا .
اما الامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) فانه استطاع ان يبثها في روح هشام، وربما كان للايحاء النفسي في هذه الوصية تأثير اكبر من عباراتها ، لأن الامام كان يجسد تعاليمها في افعاله قبل ان يلقيها كوصايا على هشام ، والاكثر من ذلك الموالي الذين كانوا حول الامام والخدم وكذلك ابناؤه كل واحد من هؤلاء بنظرته الى الامام موسى بن جعفر تحوّل الى رجل متدين ، وهذه هي الوظيفة الاساسية للأئمة ( عليهم السلام ) .
وربما يقول احدنا كان الواجب على الامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) ان يخفي نفسه ويكّون حركة سرية ويبدأ العمل السياسي ، ان هذا في الواقع عمل مهم ولكن الامام قد وكل امر هذه الوظيفة الى اناس غيره ، وقد تحدثنا سابقاً عن التنظيم الرسالي الذي توسع في عهده .
ان اعظم دور قام به الائمة المعصومون ( عليهم السلام ) ، هو القيادة الروحية للامة ، لذلك فرضوا انفسهم بصورة طبيعية حتى على اعدائهم ، فمثلا المنصور الدوانيقي هو الذي قتل الامام الصادق ( عليه السلام ) ، ولكن مع ذلك وبعد وفاة الامام تراه يبكي بكاءا مرا ويقول لأحد رجاله ، وهو ابو ايوب الحوزي : هذا كتاب بمحمد بن سليمان يخبرنا ان جعفر بن محمد قد مات ، فانا لله وانا اليه راجعون - ثلاثا - واين مثل جعفر ؟ (1).
اننا نقرأ في التاريخ ان الامام علي ( عليه السلام ) كان يذهب الى حديقة بني النجار ، حيث يقضي الليل هناك يبكي بصورة متواصلة ، ان هذا لم يكن مجرد بكاء ، وانما كان توجهاً صادقاً وعميقاً لله سبحانه ، وهذا البكاء هو الذي خلف في نفوسنا شعلة الايمان ، وكان يمشي في طرقات المدينة المنورة علّه يجد فقيراً
او مسكيناً او مريضاً ، او صاحب مصيبة فيعزيه .
وفي رواية ان رجلاً كان يتمشى في المدينة المنورة وقد سار في حقولها وعندما اقترب من حقل سمع انينا وبكاءا ، واذا به يجد الامام علي (عليه السلام) واضعا رأسه على الحائط يبكي كالواله ، وقد كان لجؤوه الى الحائط بسبب ان قواه كانت قد خارت من كثرة التعبد والتهجد وقيام الليل .
والامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) قام ايضا بهذا الدور ، فحينما كانت الامة الاسلامية مبتلاة برجل كهارون الرشيد يحتفظ في قصره بمئاة الجواري ، وتلبس جواري زبيدة زوجته احذية من الذهب وفي عهده كان البرامكة وما اشتهروا به من اسراف .